المدرسة الصينية في البناء والتربية

??????? ??????? ?? ???? ????? ??? 2015 ??????? ??????? ?? ???? ????? ??? 2015

المدرسة الصينية في البناء والتربية

By : Golan Haji جولان حاجي

لا تتساوى الجدران في العظمة والشهرة. المثال الأعرق قدَّمه شيه هوانغ دي، الإمبراطور الذي شُيّد في حقبة حكمه سورُ الصين. أرفق هذا التشييد بمأثرةٍ تاريخية أخرى هي إحراق الكتب، ليستهلَّ الإمبراطورُ باسمه فجرَ التاريخ ويكونَ الأولَ في كل مضمار، مانعاً كلمة "موت" من التداول، معاملاً تلك البلاد الشاسعة في الشرق كأنها حديقةُ قصرٍ من قصوره، آمراً بتمتين الحدود الشمالية للإمبراطورية في وجه البرابرة، فسُيّجت الحدود بسورٍ شاهق بطيء البناء، وظهرهُ طريقٌ معبَّد تحرسه الأبراج.

الكتب تصون الماضي، والعمارة ترنو إلى المستقبل. آنذاك، كان المجتاحون والمتسلّلون المحتمَلون في الصين هم المغول والتتار الذين حوّل السورُ العظيم وجهةَ حملاتهم ومذابحِ غزواتهم إلى الغرب (غرب ليس إلا شرقَ غربٍ آخر). يُرى السورُ من على سطح القمر، وأوّل مَن رآه نيل أرمسترونغ الذي ردّدت الشائعات اعتناقَهُ للإسلام بعد عودته إلى كوكبنا، حين سمع في شوارع القاهرة صوتاً ذكّره بما سمعه حين مشى على تراب القمر الذي لا ينقل هواؤه أية نأمة. لم يكن ذلك الصوت إلا الآذان.

الجدران أيضاً تتحوّل إلى إشاعات أحياناً وتُنسى، كتلك الجدران اللامرئية المطبقة حول المدن والقرى المحاصرة في الحروب الصغيرة التي تجتاح الأرض. صينُ هذا العصر صدّرتْ حيطاناً رخيصة مسبقة الصنع إلى جهات المعمورة الأربع، وقد تُرصَّع أحياناً بشظايا من زجاجات الخمور، حتى حول منازل المتديّنين الذين يُعلون أسيجتهم مخافةَ المتلصصين. في الوقت الراهن تُجترح حلولٌ كثيرة للمآسي، كجدار الحلّ بين بلغاريا وتركيا، أو بين اليونان ودول البلقان، أو أسوار الأسلاك الشائكة المسلَّحة بكاميرات مراقبة بين سلوفينيا والمجر، أو الجدار الإلكتروني بين السعودية والعراق، أو يُوعَد بتوطيد السور الفاصل بين المكسيك والولايات المتحدة، وكلُّها جدران لا تُرى من القمر، ولا تثير الفضول، وليس لمعظمها من الشهرة أيُّ نصيب، شأنها شأنُ المنازل في عشوائيات حلب أو دير الزور أو تعز. 

قالت إحدى الناطقات الرسميات باسم واحدةٍ من الهيئات التي تُعنى باللاجئين في العالم إن "جدران القانون امتداد للطبيعة"، ولنا العبثُ بهذه الاستعارة وإطالتها لتصبح نهراً متعدّد الضفاف، فالحدود قد خُلقت لتُلهِم الناس كذلك، لتحثَّهم على التفكير بالحرية والسفر، وتدفعهم إلى اقتحام المخاطر وتعلِّمهم تجاوزَ الصعاب. وراء جدران لا آذان لها، أو خلف جدران عملاقة صارت آذاناً، يتهامس العابرون والمقيمون، الغرباء عن الأمكنة والمستقرُّون فيها والفارّون من الكوارث، ويجترّ الإعلامُ استعاراتِ الحرية وكسر الخوف، فتختلط المجازاتُ بالوقائع: انهار جدارُ الصمت ليعلو صمتٌ جديد شاهق، وتحطّم جدار الخوف ليعلو سورُ الرعب ويمتلئ بالشوك سياجُ الكآبات. 

الأقدار لا تعرف العدل. الجدران لا تتساوى بمصائرها في العظمة والشهرة. جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين لا يضاهي جدارَ برلين، وحصار المدن السورية الصغيرة ليس حصار طروادة. تحولت سوريا إلى مكان خيالي تتبدّدُ فيه الأمكنة مثل بلاد أين لدى السهروردي. نعلم أن الأسطورتين المؤسستين لحضارات أوروبا آتيتان من الإلياذة والأوديسة، أي الحياة كحرب والحياة كرحلة محفوفة بالمشقّات والأخطار. قُدّم السوريون كممثلين جدد لأوديسة الهاربين من جهنم الحرب إلى فراديس أوروبا، وتحولت سوريا إلى كناية مفتوحة عن الجحيم: ناسُ سوريا وحجارةُ بيوتهم هم وقود جهنّمهم، مثلما كان الأفارقةُ السُّود فحْمَ الجحيم في عظاتِ المبشّرين الأوروبيين. الشركات العابرة للحدود وحكوماتُ أوروبا رعَتْ أيضاً هذه الجحيم السورية، وساهمت في صناعتها وسهرَتْ على حراستها، إذ لا بد من جحيم لتتوازنَ فكرة الفردوس الأرضي وتُحسَدَ وتُشتهى.

الفردوس كلمة فارسية تعني الحديقة المسوّرة، ولا بد للحديقة من أسيجة أفعوانية لرسم تخومها وترسيخ الإحساس بالأمان وعدم انتهاك أحدٍ لقدسية الممتلكات، حتى لو تمّت المجازفة بقَلبِ الفردوس إلى سجن؛ لا بد من جدران لصدّ الغزاة والدُّخلاء والشياطين والهمج والمجرمين وتجّار المخدّرات الصغار (مثلما صدّ سورُ الصين التتارَ فدمّروا بغداد واسودّ نهرُ دجلة بحبر مكتباتها الغريقة)؛ لا بد من لجم اللاجئين المشبوهين المتسرّبين من الشقوق والثغرات أو من تحت الأسلاك الشائكة، كدمٍ أسودَ ينزّ من جراحِ الحدود ويسيلُ في كلِّ اتجاه؛ لا بد من حماية الفردوس- الحديقة، والذود عن جماله وضجر أهله، حتى لو جُنّدت فواكه "البيو" ضد لحوم "الحلال"، حتى لو حُوربتِ الصورُ بالصور، لتقاتل النهودُ العارية ضد المجاهداتِ والحجابِ وختانِ النساء.

كم مِن شاعرٍ كتب بالإنكليزية رأى في البحر جداراً؟ بريطانيا التي حمتها الطبيعة حباها اللهُ جداراً مائياً عظيماً يطوّقها، موفِّراً عليها تشييد جدران دميمة باهظة التكاليف، واقفاً في وجه الذين يتطلّعون إليها من "الأدغال" في مخيم كاليه، وقد أعجزهم المشي على الماء. على جدران هذا العالم، بين الفردوس الذي يتداعى والجحيم التي تتسع، كم من همبتي دمبتي يقيم ويتنزّه ملقياً المواعظ، متفلسفاً مترنّحاً، محذّراً مُسوّفاً، متخوّفاً مشمئزاً؟

(نسخةٌ أولى من هذا النص قُرئت ارتجالاً ضمن ملتقى Papers الذي نظّمته مؤسسة العمارة في مركز البربيكان، لندن، حزيران 2016. سيصدر النص ضمن كتاب شهادات خاصة من فنانين وفاعلين ثقافيين مستقّلين أعدّته مؤسسة "اتجاهات-ثقافة مستقلة").


 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الأكاديمية الفرنسية لتخريج الشعراء

      الأكاديمية الفرنسية لتخريج الشعراء

      طُوّب "الكليشيه" في فرنسا. إنّها أمة الثقافة، "الوعي" علامتها المسجّلة. يترعرع أهلها على حبّ الشعر، يعيشونه، يتنفّسونه، يلمسونه في زهور نوافذهم وأوشحتهم، أحذيتهم الزاهية، تلاعبهم المستمرّ بالألفاظ.

    • رحلات في الزمن

      رحلات في الزمن

      تعدّدتِ الساعات والوقت واحد.

      قاسه البوذيون بحبة رمل، والمسلمون بقطرة ماء، والسلتيّون بذرّة رماد.

    • تعويذة اسمها القرداحة

      تعويذة اسمها القرداحة

      صمتٌ وجيز، تحت سماء بيروت التي تستضيء أطرافها بحرائق خفية عند انقطاع الكهرباء، أوهمك فيه هديرُ المولّدات وارتجاجُ زجاج الشبابيك بأن شارع الحمرا سيقلع بمقاهي أرصفته وتاريخ مبانيه، بصحافييه ومتذمّريه وجماله وألفته، آخذاً معه العمود الذي ربط إليه رفيق شرف جواده أمام الهورس شو، وكشك الجرائد مقابل كوستا، ولافتات وسترن يونيون الذهبية، ومناقيش زعتر وزيت

كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة


"ماما، أريد كرة أرضية مثل التي اشترتها والدة إلياس له في عيد ميلاده!". سُررت لطلب ابني في سري لأنه بدأ يهتم بالجغرافيا قبل أن يدخل المدرسة، وبدأت البحث عما يناسب عمره، فعثرت على كرة متحدثة. وفاجأته: "أنظر يا حبيبي، وجدت كرة أرضية خرافية! تلعب بها بالقلم الإلكتروني، فيقول لك القلم اسم البلد وعاصمته، ويقول لك "مرحباً" بلغة البلاد. سيحييك بـ "بونجور" في فرنسا، و"هِلو" في إنجلترا، وتحييك بـ” كونيتشيوا" في اليابان. ما رأيك؟".. انفُرجت أساريره وسأل بلهفة: "متى تشتريها لي؟" فقلت: "إنها هدية قيّمة وخاصة جداً، لن تحصل عليها إلا في عيد ميلادك أو بعد إنجاز كبير..". لم يدم إحباطه طويلاً، لكنه عاد كل بضع ساعات يسأل: "متى تأتي الأرض المتحدثة؟"

وجدت متجراً إلكترونياً يعرض الكرة المتحدثة بسعر مخفّض، فوضعتها في سلة المشتريات الافتراضية حتى لا أضطر للبحث عنها مجدداً عندما يحين موعد "الهدية القيمة". كنت وأنا اتصفح العروض فخورة بأن ابني يريد أن يتعلم أسماء البلدان. "أريد أن أذهب إلي أفريقيا" قال. وفي مرة أخرى سأل: "هل يمكن لنا أن نزور الصحراء في يوم من الأيام؟" فقلت: "سنزور الأردن، فيه صحراء جميلة، والنجوم في ليلها قريبة. إن السماء تمطر نجوماً على الساهرين فيها."...كنت سعيدة بفضول ابني واهتمامه المبكر باستكشاف العالم، إلى أن لسعتني فكرة مفاجئة.. ستكون فلسطين مدفونة تحت خارطة إسرائيل التوسعية، وإذا كان حظي سيئاً ستمتد خريطة العدو لتبلع قطاع غزة والضفة الغربية، وقد يتكرم مصنِع الكرة على إسرائيل بتنصيب القدس عاصمة لها، فما علاقة المصنع الألماني بالقرارات الدولية، وما الضرر في ذلك؟ وإن كان هناك ضرر فهل من مشتكٍ؟

لن أجد إسم (پالستينا) على الخريطة إن سألني عنه سامي، وفي المقابل سيكون إسم إسرائيل كبيراً واضحاً، لأن المنتِج ألماني، وحاجة الألمان والصناعة الألمانية إلى توثيق وجود الدولة اليهودية كبيرة جداً. إذا نقر إبني بقلمه البرتقالي على الخريطة سيطلق الصوت المسجل تحية "شالوم" من فلسطين.

لم يتعلم ابني القراءة بعد، لكنه يميز بعض الأحرف الكبيرة في أول الكلمات. سيعرف أن الكلمة المكتوبة على بلدي تبدأ بالـ (آي) وليس بالـ (پي) مثل پالستينا. فماذا أقول له إن سألني أين (پالستينا)؟ كيف أشرح له الاحتلال؟

"لماذا لم يُكتب على فلسطين أنها محتلة إذن؟ لماذا لا توجد فلسطين أصلاً على الخارطة؟" سيتساءل إبني.. "هل تدعي أمي وجود أماكن غير موجودة؟" هل سيظن أنني كاذبة أم أنه سيشفق علي لكوني مختلة عقلياً وأرى ما لا وجود له.

ترددت. . .هل أؤجل شراء الكرة الأرضية والحديث عن الوجود إلى حين يكبر إبني؟ وما جدوى التأجيل إذا درسته المدرسة في أول سنواته ما اتهرب منه أنا - جبناً من المواجهة؟

هل أشرح له أن ما تراه العين ليس بالضرورة هو الحقيقة، وأن العالم ملئ بالمؤامرات، وأن الأقوى هو الذي يكتب التاريخ ويرسم خطوط الخرائط وحدودها، وأن بلاداً وشعوباً قد وقعت من الخريطة بقوة السلاح...ما هو دليلي على ما أزعمه؟ عندما تتحدى بمقولتك الخارطة المرسومة، عليك أن تتسلح بما هو أقوى في عين الطفل من الألوان والخطوط والأحرف الأولى. ماذا لدي لأبرهن لإبني على وجود ما لا يراه؟

اغرورقت عيناي بدمع المغلوب على أمره. إن عمره خمس سنوات أيها الظُلّام! كيف أشرح له أن أمه أتت من اللا مكان، كيف أقول له إن عائلتها تقطن في مكان تغطيه إسرائيل عن أعين العالم، لتفعل بهم ما يخدش الحياء والقانون والإنسانية؟ كيف أعلمه الثقة في الكتاب وما يقوله، بعد أن كَذَبتُه أنا في أول الطريق؟ كيف أزعم أمامه أن فلسطين حقيقة وليست من صنع خيالي، وأنها ليست كبلد الجنيات والعجائب التي يراها في الرسوم المتحركة؟

أدركت أنني بعد أن خسرت معارك الأرض في فلسطين، ومعارك الجو في بيروت، وبعد قبولي بجنسية أخرى في ألمانيا، ها هو تاريخي كله مطروح للزوال عن الخريطة.

بكيت بحرقة على مائدة الطعام، حتى شعرت بيد صغيرة دافئة على كتفي. "ماذا بك يا ماما؟" سأل ببراءة. قلت له بيأس: فلسطين موجودة، لكنهم لا يكتبون إسمها على الخريطة!"، فرد: "لا يهمك ولا تبكين! فأنا أصدقك!"

 

هينيف، ٢٣ مارس ٢٠١٧